الرئيسية تقديرات هندسة المؤامرة: الأبعاد الاستراتيجية لإعلان الحوثيين القبض على "شبكات التجسس"
هندسة المؤامرة: الأبعاد الاستراتيجية لإعلان الحوثيين القبض على "شبكات التجسس"
تقديرات إتجاهات أمنية

هندسة المؤامرة: الأبعاد الاستراتيجية لإعلان الحوثيين القبض على "شبكات التجسس"


"ومكرُ أولئك هو يبور"، زعم من خلالها تفكيك شبكة تجسس كبرى تضم 22 شخصًا، في إعلان لم يكن حدثاً معزولاً، بل ذروة حملة أمنية شرسة تصاعدت منذ مايو/أيار 2024.  وفقًا لرواية الحوثيين، كانت هذه الشبكة تُدار من غرفة عمليات استخباراتية مشتركة تضم وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، والموساد الإسرائيلي، والمخابرات السعودية، ويقع مركز قيادتها على الأراضي السعودية. زعمت الجماعة أن الهدف الأساسي للشبكة هو تقويض القدرات العسكرية للحوثيين، وخاصة القوات الصاروخية والطائرات المسيّرة، واستهداف قيادات سياسية وعسكرية وأمنية بارزة.

يقترح هذا التحليل فرضية مركزية مفادها أن رواية "شبكات التجسس" ليست مجرد أداة دعائية، بل هي عنصر تأسيسي في استراتيجية الحكم الحوثية القائمة على إدارة الأزمات الدائمة. إنها الآلية الأساسية التي يتم من خلالها تحويل الصراع الخارجي إلى رأسمال سياسي داخلي، وتوظيفه لتحقيق ثلاثة أهداف متداخلة: أولاً، تحويل الفشل الأمني، والمتمثل في اغتيال قيادات بارزة في أغسطس/آب 2025، إلى نصر دعائي يعزز التماسك الداخلي؛ ثانياً، توفير غطاء أيديولوجي لتصفية المجال المدني والإنساني المتبقي، وتجريم أي صوت مستقل تحت ذريعة مكافحة "العمالة"؛ ثالثاً، ممارسة ضغط محسوب على المملكة العربية السعودية في سياق المفاوضات المتعثرة، وتحويل ملف المعتقلين إلى ورقة مساومة ذات قيمة استراتيجية.

يهدف هذا التحليل إلى تفكيك هذه السياسات الحوثية، وتحليل كيفية بناء الحوثيين لسردية "المؤامرة الكونية" لخدمة أجندتهم السياسية والأمنية.

أولاً: الدوافع الاستراتيجية الحقيقية: إعادة تأطير فشل أغسطس/آب 2025

في النزاعات الهجينة الحديثة، أصبحت إدارة السردية لا تقل أهمية عن إدارة العمليات العسكرية. يسعى الفاعلون المسلحون، مثل الحوثيين، إلى السيطرة على الفضاء المعلوماتي لتحويل الهزائم التكتيكية أو الإخفاقات الأمنية إلى انتصارات معنوية. هذه الاستراتيجية ضرورية للحفاظ على التماسك الداخلي، وتبرير التعبئة المستمرة، وإبقاء الخصوم في حالة من عدم اليقين الدفاعي.

يمثل تفكيك الرواية الرسمية التي قدمها الحوثيون لكشف ما وصفوها بـ "شبكة تجسس كبرى"، خطوة ضرورية لفهم الأبعاد الحقيقية لهذه الحملة. إن النظر إلى ما وراء الإعلان الأمني، يكشف عن استراتيجية متعددة الأوجه، بهدف تحقيق مكاسب داخلية وخارجية تتجاوز مجرد الإنجاز الاستخباراتي المزعوم، ومن خلال تحليل تفاصيل الرواية المعلنة، يمكن تقييم الدوافع الحقيقية للحملة وتداعياتها.

يمثل استخدام الحملة كآلية لإدارة الإخفاقات الأمنية الكبرى، وتنفيذ استراتيجية "إدارة جنون الارتياب" (Paranoia Management) أحد الدوافع الرئيسية لها. جاء الإعلان في نوفمبر 2025، كـهجوم سردي ومباشر مضاد لامتصاص صدمة الاختراقات الاستخباراتية النوعية؛ ففي أغسطس/آب 2025، أسفرت غارة جوية إسرائيلية عن مقتل 11 مسؤولًا حوثيًا رفيع المستوى بينهم رئيس حكومة الجماعة أحمد الرهوي[2]، وإصابة رئيس الأركان محمد عبد الكريم الغماري بجروح بالغة، توفي متأثرًا بها في أكتوبر/تشرين الأول 2025. مثّل هذا الحدث، الذي أقرت قيادات حوثية على إثره بوجود "اختراق أمني خطير" - فشلاً استخباراتياً ذريعاً. لم يكن الإخفاق مجرد خسارة لأحد أبرز قياداتها، بل كان تحدياً مباشراً لصورة الجماعة الأمنية المنيعة، مما استدعى رداً سردياً قوياً ومصمماً بعناية لإعادة تأطير الهزيمة.

عمّقت الضربات الإسرائيلية التي تلت ضربة أغسطس، أزمة الثقة في النظام الأمني الحوثي، خاصة ضربات سبتمبر/أيلول2025،[3]حيث أظهرت هذه الضربات ضعف النظام الأمني في مواجهة عمليات استخباراتية معقدة وعالية التقنية. عقب هذه الاختراقات المتتالية، سادت حالة من الشك والارتباك داخل صفوف الحوثيين، ليعترف القائم بأعمال رئيس الوزراء، محمد مفتاح، بوجود "اختراق أمني خطير"، مؤكداً أنهم يواجهون "منظومة استخباراتية كبيرة".[4] كرد فعل مباشر، بدأت الأجهزة الأمنية الحوثية حملة اعتقالات واسعة النطاق في 31 أغسطس/آب 2025، استهدفت في البداية موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بتهمة التجسس، قبل أن تتوسع لتشمل أي شخص يُشتبه بتعاونه مع الخارج[5]. هذه الأزمة الأمنية الخانقة هي التي مهدت الطريق لإعلان "شبكة التجسس" ككبش فداء مثالي.

بناء "المؤامرة الكونية": تفاصيل عملية "ومكرُ أولئك هو يبور"

لم يكن رد الحوثيين على الاختراق الأمني مجرد إجراءات أمنية، بل تمثل في بناء سردية مضادة متكاملة. هدفت هذه السردية إلى صناعة نصر استخباراتي ضخم يغطي على الفشل الأمني الذريع، ويعيد بناء الثقة المفقودة في أجهزتهم الأمنية.

وفقاً لإعلانات الأجهزة الأمنية الحوثية في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وُصفت الشبكة بأنها تتبع لـ "غرفة عمليات مشتركة" تضم المخابرات الأمريكية (CIA)، والموساد الإسرائيلي، والاستخبارات السعودية،[6] وزُعم أن مقر هذه الغرفة يقع في المملكة العربية السعودية، مما يضع الرياض في قلب "المؤامرة" المفترضة كذراع تنفيذي للمشروع الأمريكي-الإسرائيلي.

في وقت لاحق، بثت وسائل الإعلام الحوثية سلسلة من "الاعترافات" المتلفزة للمعتقلين[7]، والتي بدت كأنها سيناريو مكتوب بعناية لتجسيد حجم "المؤامرة"، ويمكن تلخيص تفاصيلها في الجدول التالي

 

التكتيك المزعوم الوصف العملياتي حسب الرواية الحوثية
التجنيد متعدد الأوجه استغلال الحاجة الاقتصادية واليأس لدى المواطنين، وتقديم عروض عمل خادعة تحت غطاء منظمات إنسانية وتنموية (مثل "قدرة للتنمية المستدامة" و"دار السلام")، واستخدام العلاقات الشخصية لتنفيذ الأهداف الموكلة لهم.
التدريب الخارجي تلقي العملاء تدريبات متقدمة في مواقع متعددة، أبرزها الرياض، بالإضافة إلى القاهرة وأديس أبابا، على يد ضباط استخبارات أمريكيين وإسرائيليين وسعوديين، وخبير تقني بريطاني.
الأدوات والتقنيات المتقدمة

تزويد الشبكة بمعدات تجسس متطورة، بما في ذلك كاميرات سرية مصغرة مخبأة في أشياء يومية (مثل أجهزة التحكم عن بعد الخاصة بالسيارات)، وأجهزة اعتراض الشبكات (Sniffers) لجمع بيانات Wi-Fi، وأنظمة بث مباشر للفيديو.

 

 

 

 

كانت التفاصيل الدقيقة التي قُدمت في الاعترافات تخدم أهدافاً دعائية واضحة. إن تصوير الشبكة على أنها "عالية التقنية" و"عابرة للحدود" وتضم أجهزة استخبارات عالمية يهدف إلى تضخيم حجم "المؤامرة"، وبالتالي تضخيم حجم "النصر" الأمني الذي حققته أجهزة الحوثيين. 

لم يكن اختيار التفاصيل عشوائياً؛ فذكر "خبير تقني بريطاني" على سبيل المثال،[8] يهدف إلى إضفاء غطاء من المصداقية التقنية الغربية المتطورة على "المؤامرة"، مما يجعل "الانتصار" الحوثي عليها يبدو أكثر إبهاراً. إن هذه التفاصيل السينمائية مصممة بعناية لتتلاقى مع نظريات المؤامرة التي تم بناؤها مسبقا، وتخلق واقعاً ملفقاً لكنه أكثر إقناعاً. علاوة على ذلك، تم ربط نشاط الشبكة بمحاولة إيقاف عمليات الحوثيين العسكرية بذريعة مساندة لغزة، مما يهدف إلى تصويرها كجزء من حرب أوسع على "محور المقاومة"، وتبرير أي إجراءات قمعية باعتبارها دفاعا عن القضية الفلسطينية. هذه السردية المصنّعة سمحت للجماعة بإعادة تأطير فشلها الأمني.

على الرغم من أن مزاعم عملية "ومكر أولئك هو يبور" لم ترتبط بشكل مباشر بالهجمة الإسرائيلية التي أدت إلى مقتل رئيس الحكومة ومن معه، إلا أن الإعلان عن الشبكة لم يكن منفصلاً عن الهجمات الأمريكية والإسرائيلية، وتم توظيفه بشكل مباشر لتقديم تفسير جاهز ومقنع لاغتيال القيادات. كان زعيم الجماعة، عبد الملك الحوثي، قد وجه اتهاماً مباشرأً بوجود "خلايا تجسسية" تعمل تحت غطاء إنساني بتوفير المعلومات والإحداثيات التي سهّلت الضربة.[9] بشكل محدد، تم توجيه اتهام مباشر إلى "مسؤول الأمن والسلامة في مكتب برنامج الأغذية العالمي" بالضلوع في العملية.

هذا الربط المحكم يغلق الدائرة السردية تماماً؛ فهو يحوّل الهزيمة الناتجة عن الاختراق الأمني إلى "انتصار استباقي" تمثل في كشف المتورطين، وهكذا، لم تخدم سردية شبكة التجسس كذريعة استرجاعية لتبرير فشل كارثي فحسب، بل أيضاً كترخيص استباقي للتفكيك الممنهج لما تبقى من مجتمع مدني في اليمن.

 

ثانياً: تسييس الإغاثة وتصفية المجال المدني (القمع تحت غطاء الأمن)

بعد إعادة تأطير الفشل الأمني، حولت الحركة تركيزها إلى الداخل، حيث استغلت سردية التجسس لتنفيذ حملة قمع ممنهجة، استهدفت جميع الكيانات التي تتمتع باستقلالية نسبية، بما في ذلك قطاع الإغاثة والمجتمع المدني والأكاديميين.

على مدار السنوات الثلاث الماضية -على الأقل- كانت تهمة "التجسس"، هي الأداة المفضلة والأكثر فعالية كذريعة لشرعنة القمع الممنهج ضد أي صوت مستقل أو نشاط خارج عن سردية وأيديولوجية الجماعة[10]. من خلال هذه التهمة، يتم تحويل العمل الإنساني، والإعلامي، والحقوقي من نشاط حيادي وضروري، إلى عمل مشبوه يخدم "العدو"، مما يوفر غطاءً قانونياً ظاهريا لتصفية المجال المدني وإحكام السيطرة المطلقة.

تسييس الإغاثة
شهدت الفترة: مايو/أيار - أكتوبر/تشرين الأول 2025، تصعيداً غير مسبوق في حملة الاعتقالات التي استهدفت الموظفين اليمنيين في وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. بحلول نهاية أكتوبر 2025، كان الحوثيون يحتجزون 59 موظفاً أممياً[11]، مع تهديدات بمحاكمة 43 منهم بتهمة التجسس. شملت الحملة منظمات رئيسية مثل برنامج الأغذية العالمي (WFP) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF) ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).[12]

تسببت حملة الحوثيين ضد العمل الإغاثي في شلل شبه كامل لعمليات المساعدات في مناطق سيطرتهم، ودفعت منظمات كبرى مثل برنامج الأغذية العالمي[13] ومنظمة الصحة العالمية إلى تعليق برامجها الحيوية، ونقل الأمم المتحدة مقرها الإنساني من صنعاء إلى عدن. الهدف التكتيكي من هذه الإجراءات هو تحويل الموظفين المعتقلين والعمل الإنساني إلى "عملة تفاوضية رخيصة"، لخلق ورقة ضغط مباشرة على المجتمع الدولي والدول المانحة لانتزاع تنازلات سياسية أو مالية.

لأن توقف عمل الإغاثة يسبب غضباً شعبياً مع تفاقم أزمة الجوع[14]، وسيشمل الغضب هذه المرة أنصار الجماعة -أكبر المستفيدين- كانت السردية الدعائية ضرورية لربط نشاط المنظمات بالخسارة الأكبر، وهي اغتيال القيادات والضلوع المباشر في عملية قتل رئيس حكومة الجماعة. أضفى زعيم الحوثيين أهمية وشرعية لهذه الحملة في خطابه بتاريخ 16 أكتوبر/تشرين الأول، حيث اتهم المنظمات صراحةً بالعمل كـ"غطاء للتجسس" وقال إنها "مخترقة من قبل الأمريكيين والإسرائيليين"[15]. بالمقابل، أصدر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بياناً "يرفض فيه بشكل قاطع كل هذه الاتهامات"، واصفاً إياها بأنها "خطيرة وغير مقبولة على الإطلاق".[16]

حوّل الحوثيون رواية "التجسس" إلى سلاح مباشر ضد المنظمات الإنسانية، مما سمح لهم بتبرير حملة قمع واسعة النطاق لم تكن تهدف إلى حماية الأمن القومي، بل إلى إحكام السيطرة الكاملة على تدفق المساعدات واستخدامها كورقة ابتزاز سياسي ضد المجتمع الدولي، بينما شرعن مكتب المبعوث الأممي سلوك الحوثيين بتشكيل فريق تفاوض خاص بموضوع المحتجزين بتهمة “التورط في خلايا التجسس”، ما يعد إقراراً فعلياً من المنظمة الدولية بفتح مسار للتفاوض حول الثمن الذي ستدفعه للحوثيين مقابل سلامة موظفيها.[17]

تصفية المجال المدني
لم تكن استراتيجية "تهمة التجسس" مقتصرة على القطاع الإنساني، بل كانت غطاءً لتنفيذ حملة شاملة ومنهجية تهدف إلى إخراس كل صوت مستقل وتفكيك أي بنية مجتمعية أو سياسية يمكن أن تشكل تحدياً لسلطة الحوثيين المطلقة. استُخدمت القبضة الأمنية لاستهداف ممنهج لمختلف فئات المجتمع المدني والسياسي، حيث أصبحت تهمة "العمالة" جاهزة لكل من يجرؤ على التعبير عن رأي مخالف.

في ذات السياق، وسعت الجماعة انتهاكاتها، مستهدفة المدافعين عن حقوق الإنسان، والصحفيين، والأكاديميين، حيث تضمنت الانتهاكات الموثقة الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب. مثل اختطاف المحامي عبدالمجيد صبره، في سبتمبر/أيلول 2025م،[18] ثم أستاذ علم الاجتماع البارز حمود العودي (76 عاماً) ورفيقيه، في نوفمبر/تشرين الثاني[19]، مؤشراً على استهداف الجماعة المتعمد للنخبة الفكرية والمدنية. هذا الإجراء ليس عشوائياً، بل هو جزء من تدمير ممنهج لمراكز التفكير المستقلة التي ما تزال تعمل في صنعاء بجهود شخصية، ويمكن أن تشكل أساساً لدعوات مستقلة للسلام في المناطق الواقعة تحت سيطرة الجماعة، ولا تلتزم بـ/تخدم أيدولوجيتها ومصالحها. يتم استخدام التهم الأمنية الفضفاضة (التجسس) لشرعنة اعتقال الشخصيات التي ليست متورطة عسكريا، وإرسال رسالة ترهيب واضحة للنخبة المتبقية.

بالإضافة إلى تصفية النخبة الفكرية، سعت الحركة إلى السيطرة على السردية التاريخية. يؤكد اعتقال المدنيين على خلفية الاحتفال بذكرى ثورة 26 سبتمبر، أن الجماعة تسعى للسيطرة ليس فقط على المجال السياسي اليوم، بل على الذاكرة الجمعية لليمنيين والسردية الجمهورية التي تناقض مشروع الجماعة الطائفي.

مسرح الاعترافات القسرية: أداة الترهيب النفسي
يعتبر بث "الاعترافات"[20] أداة استراتيجية غير قانونية، مصممة لإدارة الخوف وتوطيد السيطرة الداخلية. إن بث الاعترافات التلفزيونية المنتزعة تحت وطأة التعذيب يتجاوز هدف الإثبات الجنائي (لأن القضاء تابع لسلطة الجماعة بالفعل)، وإنما يسعى إلى تحقيق هدف نفسي بالدرجة الأولى هو الترهيب الجماعي، وبث الرعب في "الجبهة الداخلية" وإظهار أن الأجهزة الأمنية الحوثية ليست فقط قوية، بل لديها القدرة على كشف وتفكيك المؤامرات الأكثر تعقيداً، مما يدعم ثقة الجمهور في روايتها ويزيد من تكلفة المعارضة.

بالإضافة إلى ذلك، يمثل الإذلال العلني للمعتقلين تحذيراً لأي شخص يفكر في تحدي السلطة الحوثية، فمن خلال شيطنة الأفراد علناً عبر التلفزيون، يتم تحويل المجتمع إلى شبكة رقابة ذاتية، حيث يُفقد المواطنين الثقة ببعضهم البعض، مما يقضي على أية إمكانية لتنظيم المقاومة المدنية المحلية، أو التواصل مع أفراد من خصوم الجماعة في الطرف المقابل، حتى لو كانوا أصدقاء أو أقارب.

إن الوظيفة الاستراتيجية لهذه الممارسات هي تعزيز القبضة الحديدية للجماعة داخليا؛ فمن خلال تصويرها على أنها قادرة على تفكيك شبكة معقدة يديرها تحالف أمريكي-إسرائيلي-سعودي، يتم تحويل الاختراقات الأمنية الكبرى إلى "انتصار استخباراتي". هذا التوظيف الإعلامي للقمع يبرر نموذج الحكم القائم على التعبئة و"أمننة المجتمع"، ويعزز صورة قيادة الجماعة كحامية للأمة في مواجهة "مؤامرة كونية"، مما يرسخ سلطتها المطلقة وغير الخاضعة للمساءلة.

 

ثالثا: ورقة الضغط الإقليمية.. استهداف السعودية في قلب السردية

في سياق الدبلوماسية القسرية، تستخدم الجماعات المسلحة الاتهامات الاستخباراتية كأداة لرفع التكلفة السياسية على خصومها الإقليميين وتعقيد مسارات التفاوض، لكن إعلان الحوثيين الأخير يتجاوز كونه تكتيكاً ثنائياً، ليمثل تطبيقاً نموذجياً لعقيدة "محور المقاومة" الإيرانية، التي تهدف إلى إرهاق الولايات المتحدة وشركائها في "صراعات طاحنة ومفتوحة" وزيادة العداء الإقليمي لوجودهم.

إن اتهام السعودية صراحةً باستضافة "غرفة العمليات المشتركة" وتدريب العملاء على أراضيها، ليس اتهاماً عابراً، بل هو رسالة استراتيجية ومباشرة بهدف إحراج الرياض سياسياً ودبلوماسياً، ورفع تكلفة أي تعاون استخباراتي سري مستقبلي قد يستهدف قيادات الحوثيين. بهذا، يحاول الحوثيون فرض معادلة جديدة: أي نجاح أمني ضدهم سيقابله تشهير سياسي علني يضعف الموقف التفاوضي للرياض.

تزامن توقيت الإعلان مع تعثر المحادثات حول "خارطة الطريق" للسلام في مسقط[21]، حيث يستخدم الحوثيون "ورقة التجسس" للضغط على السعودية في ملفات عالقة وحيوية، مثل قضية دفع رواتب الموظفين، وتخفيف حدة العقوبات الأمريكية على الجماعة ومناطق سيطرتها بفعل تصنيفهم جماعة إرهابية. الأهم من ذلك، تحويل ملف المعتقلين، خاصة موظفي الأمم المتحدة، إلى ورقة مساومة عليا، يمكن استخدامها لانتزاع تنازلات اقتصادية وسياسية كشرط مسبق لأي تقدم في مسار السلام.

إن ربط الرياض علناً بالتعاون الاستخباراتي مع واشنطن وتل أبيب يخدم هدفاً ثانوياً يتمثل في إضعاف الموقف السعودي إقليميا، خاصة في سياق القضية الفلسطينية. يستغل الحوثيون هذا الربط لتعزيز سرديتهم كقوة "مقاومة"، بينما يصورون السعودية كشريك في "المحور الأمريكي-الصهيوني". هذا التكتيك لا يخدم فقط أجندة الحوثيين الدعائية، بل يتماشى تماماً مع الاستراتيجية الإيرانية الأوسع لزيادة العداء الإقليمي لخصومها الذين هم شركاء للولايات المتحدة، وإظهار أن الوجود الأمريكي يجلب الفوضى بدلاً من الاستقرار.

 

رابعاً: الأهمية الاستراتيجية لتقديم "استخبارات الشرطة"[22]

إن اختيار "جهاز استخبارات الشرطة"، الذي يترأسه علي حسين الحوثي (نجل مؤسس الحركة)، ليكون الواجهة المعُلِنة عن "الإنجاز الأمني الكبير" المتمثل في عملية "ومكرُ أولئك هو يبور"، لم يكن عشوائيًا، بل يعكس توازنات القوة الداخلية داخل الجماعة، ويحمل دلالات استراتيجية مهمة حول تطور هيكل السلطة والرسائل المراد إيصالها للداخل والخارج:

أولاً، شرعنة الجهاز الجديد وإثبات فعاليته وتفوقه على الأجهزة الأمنية التقليدية، وتقديمه كقوة استباقية قادرة على مواجهة "الحروب الاستخباراتية المعقدة".

ثانيًا، تكريس نفوذ عائلة الحوثي، حيث إن تسليط الضوء على قيادة نجل مؤسس الجماعة علي حسين الحوثي، للجهاز الذي يتبع اسمياً وزارة الداخلية، وعلاقته بوزير الداخلية عبد الكريم الحوثي (عم والده)، يؤكد استمرار تركيز السلطة الأمنية في أيدي الدائرة الأكثر ولاءً وموثوقية داخل الجماعة، كما تتركز السلطة العسكرية في الدائرة الأكثر ولاء بتعيين "يوسف المداني" رئيساً للأركان عقب اغتيال الغماري. والمداني هو زوج شقيقة علي حسين الحوثي[23].

ثالثاً، هذا الظهور يسلط الضوء على عملية تصعيد مدروسة للجيل الثاني من عائلة الحوثي إلى الواجهة الأمنية، ما يمثل خطوة مهمة لتعزيز سلطتهم وترسيخ نفوذهم داخل الهياكل الأكثر حساسية في الجماعة. هذا الترتيب الاستراتيجي يهدف إلى تأمين الخلافة السلالية وضمان حسم أي صراع مستقبلي على السلطة لصالح الدائرة الأضيق للقيادة، ما يُطمئن أنصار الجماعة وقياداتها بأن مقتل زعيم الجماعة إن حدث، لن يؤدي إلى الدخول في صراعات داخل عائلة الحوثي حول قيادة الجماعة.

بعد الفشل الأمني الذي أفقد الجماعة كثيراً من مكانتها لدى أنصارها، كان من الضروري تقديم دليل سريع ومقنع على كفاءة الأجهزة الأمنية. جاء الإعلان عن "اكتشاف" شبكة التجسس، واستخدامها لمعدات متطورة ليخدم هذا الغرض بشكل مثالي. إن الترويج لقطاع استخبارات الشرطة على أنه كفؤ في التعامل مع "التهديدات الحديثة" (الرقمية والمخابراتية) يهدف إلى شرعنة احتكار العائلة للسلطة والقمع، فبدلاً من أن يُنظر إلى الجماعة على أنها مخترقة وضعيفة، يتم تقديمها على أنها نظام قوي وكفؤ نجح في استعادة "الأمن والاستقرار"، وبالتالي تعزيز الشرعية الدينية والسياسية للقيادة الحالية.

هذا التطور يتجاوز مجرد تصعيد جيل جديد، ليشير إلى انقسامات محتملة للجهاز الأمني. تشير التقارير إلى أن "جهاز استخبارات الشرطة" بدأ يفرض "ضباط ارتباط"[24] على شركات الحراسة الأمنية الخاصة، مما يخلق هيكلاً موازياً لجهاز الأمن والمخابرات الرئيسي، وهذا الإعلان يمكن تفسيره كجزء من صراع نفوذ داخلي بين الأجنحة الأمنية المختلفة. يثير هذا التطور أسئلة استراتيجية حاسمة: هل يخلق الصراع مراكز قوة جديدة؟ هل يشير إلى انعدام ثقة داخل النخبة الحوثية؟ وهل يفتح ثغرات أمنية جديدة يمكن للخصوم استغلالها؟

 

خاتمة

توظيف الحوثيين لـ "ورقة التجسس" هو تكتيك ضمن استراتيجية متكاملة تهدف إلى إعادة تشكيل قواعد اللعبة محلياً وإقليمياً. يسعى الحوثيون من خلال ذلك إلى تحويل نقاط ضعفهم، مثل الاختراقات الأمنية والأزمة الاقتصادية الخانقة (التي أثارت غضباً شعبياً)، إلى وقود لتعزيز قبضتهم الداخلية ونفوذهم التفاوضي. يتم ذلك عبر إعادة توجيه السخط العام الداخلي نحو "المؤامرة الخارجية" وعملائها، مما يرسخ نموذج حكم شمولي قائم على القمع وإدارة الأزمات من خلال تلفيق المؤامرات وتصفية المجال المدني، الأمر الذي يجعل أي فاعل محلي عرضة لاتهامات العمالة.

تشكل هذه الاستراتيجية تهديداً وجودياً للعمل الإنساني والفضاء المدني، حيث يتم تجريم الموظفين المحليين وتحويلهم إلى "جواسيس" كورقة مساومة دائمة لابتزاز المجتمع الدولي وانتزاع تنازلات سياسية ومالية، كما أن هذا التصعيد الدعائي يرفع منسوب انعدام الثقة ويعقّد جهود الوساطة الدولية، خاصة مع السعودية - إذ يحوّل الحوثيون الملفات الأمنية إلى شروط مسبقة لأي تقدم سياسي، رافعين بذلك سقف المطالب وجاعلين التوصل إلى تسوية شاملة أكثر صعوبة

 

 

[١] صنعاء تعلن تفكيك شبكة تجسسية تعمل لمصلحة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية والسعودية https://tn.ai/3442901

[٢] مقتل رئيس وزراء حكومة الحوثي اليمنية في غارة إسرائيلية https://www.al-monitor.com/originals/2025/08/prime-minister-yemens-houthi-government-killed-israeli-strike

[٣] الحوثيون يؤكدون مقتل رئيس الحكومة أحمد الرهوي و10 قيادات في غارة إسرائيلية استهدفت اجتماعًا سريًا https://www.aljazeera.net/news/2025/8/30/houthi-pm-killed-israeli-strike

[٤] محمد مفتاح في أول اجتماع للحكومة بعد اغتيال الرهوي: نواجه "منظومة استخباراتية كبيرة" والخرق الأمني لن يمر دون محاسبة https://www.al-akhbar.com/Yemen/2025/09/02/Muftah-Security-Breach-Statement

[٥] الأمم المتحدة تدين بشدة اعتقال موظفيها في اليمن وتطالب بالإفراج الفوري عنهم دون شروط https://news.un.org/ar/story/2025/09/1158241

مصادر حقوقية في صنعاء: حملة 31 أغسطس الأمنية هي الأوسع منذ سنوات وتستهدف "تطهير" المنظمات الدولية https://www.alaraby.co.uk/politics/yemen-sanaa-security-campaign-august-2025

[٦] تفاصيل عملية "ومكر أولئك هو يبور": وزارة الداخلية تكشف عن غرفة عمليات مشتركة (أمريكية - إسرائيلية - سعودية) تدير الشبكة من الرياض https://www.almasirah.net.ye/post/2025/11/08/details-spy-network-riyadh

[٧] شاهد: اعترافات تفصيلية لأعضاء خلية "ومكر أولئك هو يبور" تكشف ارتباطهم بضباط مخابرات في الرياض وتل أبيب https://www.alalam.ir/news/6789012/yemen-spy-network-confessions

[٨] أحد الاعترافات المنشورة في فيديو الاعترافات قناة المسيرة 8/11/2025

[٩] زعيم الحوثيين يتهم موظفي الأمم المتحدة بالتجسس والانخراط في أنشطة عدائية؛ وغوتيريش يرفض الاتهامات ويصفها بالتهديد الخطير - (WCYS)https://wcys.org/houthi-leader-accuses-un-staff-of-spying-and-engaging-in-hostile-activities-guterres-rejects-allegations-as-serious-threat/  

[١٠] اعتقالات الحوثيين تضع قطاع الإغاثة أمام خيارات قاسية - مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية https://sanaacenter.org/publications/main-publications/24213

[١١] الإسكات بالقوة: الانتهاكات الممنهجة للحوثيين ضد المدافعين عن حقوق الإنسان في اليمن - منظمة "هيومينا" لحقوق الإنسان https://humena.org/yemen-silence-by-force-2025

[١٢] الحوثيون يعتقلون أعضاء مزعومين في "شبكة تجسس" سعودية-أمريكية-إسرائيلية - مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD) https://www.fdd.org/analysis/2025/11/10/houthis-arrest-alleged-members-of-saudi-american-israeli-spy-ring/

[١٣] تقرير الوضع في اليمن الصادر عن برنامج الأغذية العالمي (WFP) رقم 10، 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 https://reliefweb.int/report/yemen/wfp-yemen-situation-report-10-16-november-2025

[١٤]  تقرير الرصد المشترك لليمن: تحديث كل شهرين حول مخاطر أزمات الأمن الغذائي والتغذية (نوفمبر/تشرين الثاني 2025، العدد 11) https://reliefweb.int/report/yemen/yemen-joint-monitoring-report-bimonthly-update-food-and-nutrition-security-crisis-risks-november-2025-no-11

[١٥] السيد القائد في كلمته الأسبوعية: المنظمات الدولية أصبحت "واجهات استخباراتية" للعدو وتعمل بتوجيه أمريكي مباشر https://www.almasirah.net.ye/post/2025/10/16/leader-speech-ngo-spies

[١٦] بيان منسوب للمتحدث باسم الأمين العام: غوتيريش يرفض اتهامات الحوثيين "بشكل قاطع" ويصفها بالخطيرة https://news.un.org/ar/story/2025/10/1160042

[١٧] المعتقلون الأمميون كأوراق استراتيجية.. كيف أجبر الحوثيون الأمم المتحدة على شرعنة “مسار الابتزاز”؟ -تحليل خاصhttps://www.yemenmonitor.com/Details/ArtMID/908/ArticleID/154030

[١٨] هيومن رايتس ووتش: السلطات الحوثية تعتقل محامي حقوق الإنسان عبد المجيد صبرة وتخفيه قسرياً https://www.hrw.org/ar/news/2025/10/15/yemen-human-rights-lawyer-arrested

[١٩] منظمة "سام" للحقوق والحريات: احتجاز الدكتور حمود العودي ورفيقيه (أنور شعب وعبدالرحمن العلفي) تصعيد خطير ضد الرموز الفكرية https://www.samrl.org/news/2025/11/10/detention-of-academic-hamoud-aloudi

[٢٠] نص اعترافات الخلية التجسسية: مهام تنوعت بين الرصد العسكري، واختراق المؤسسات الرسمية، ونشر الحرب الناعمة https://www.saba.ye/ar/news3371550.htm

[٢١] مصدر دبلوماسي مطلع على المفاوضات تحدث للباحث في 18/11/2025

[٢٢] ظهر علي حسين الحوثي في مقطع الفيديو الذي أعلن عن تنفيذ العملية: https://x.com/TvAlmasirah/status/1987143621225902226

[٢٣] الجنرال الذي لا يرتدي “الكتاف” رئيسا للأركان.. كيف تصنع “عائلة الحوثي” جنرالاتها؟https://www.yemenmonitor.com/Details/ArtMID/908/ArticleID/152831

[٢٤] استخبارات الشرطة تفرض "ضباط ارتباط" على شركات الحراسة الأمنية في إطار الصراع مع جهاز الأمن والمخابرات https://alnkkar.com/details/police-intelligence-security-firms

إخلاء للمسئولية: تعبّر وجهات النظر المذكورة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المركز أو فريق العمل.

التعليقات
هندسة المؤامرة: الأبعاد الاستراتيجية لإعلان الحوثيين القبض على "شبكات التجسس" - | مركز اليمن والخليج للدراسات