Home Estimates الخليج وإيران: بين ضغوط التحول وإغراء التصعيد
الخليج وإيران: بين ضغوط التحول وإغراء التصعيد
Estimates Regional and International Trends

الخليج وإيران: بين ضغوط التحول وإغراء التصعيد


تدخل العلاقة بين الخليج وإيران مرحلة دقيقة وغير مسبوقة، إذ يتقاطع فيها تراجع النفوذ الإيراني بفعل الضربات الإسرائيلية الأمريكية الموجهة إلى عمق بنيته الاستراتيجية، مع محاولات خليجية لإعادة صياغة المشهد الإقليمي وفق أولويات جديدة تركز على التهدئة والتنمية.
في ظل هذا المشهد المتغير، أظهرت طهران إشارات انفتاح واضحة عبر تصريحات الرئيس مسعود بزشكيان، الذي تحدث مؤخراً عن "فتح صفحة جديدة مع دول الخليج"(١). غير أن هذه التصريحات تطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعتها الحقيقية: هل تعكس مراجعة استراتيجية أصيلة في السلوك الإيراني، أم أنها مجرد استجابة تكتيكية لضغوط داخلية وخارجية متزايدة؟
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب تحليلاً دقيقاً للسياق الذي تأتي فيه هذه الإشارات، خاصة وأن التاريخ الحديث للعلاقات بين الجانبين يحفل بمحاولات انفتاح سابقة لم تترجم إلى تغيير جذري في السلوك الإيراني.
من جانبها، تتعامل دول الخليج مع هذه التطورات بحذر محسوب، ساعية للتحقق من وجود فرصة حقيقية لإعادة تشكيل العلاقة مع طهران. هذا الحذر مبرر في ضوء التجارب السابقة، إلا أن الدول الخليجية تدرك أيضاً أن اللحظة الراهنة قد تشكل نافذة استثنائية للتأثير في التوازنات الإقليمية.
تركز الأولويات الخليجية على القضايا ذات التأثير المباشر على الأمن القومي، وفي مقدمتها الملف الحوثي الذي تحول إلى أحد أكثر أدوات النفوذ الإيراني تأثيراً على التوازنات في الجزيرة العربية. سيقاس نجاح أي تفاهم مستقبلي مع إيران بمعيار التقدم الملموس في هذا الملف تحديداً.

 

الضربات الإسرائيلية وتأثيرها على المعادلة الإقليمية
لا يمكن فهم التحولات الراهنة في العلاقات الخليجية الإيرانية دون إدراك عمق التأثير الذي تركته الضربات الإسرائيلية على إيران، والتي بدأت في 13 يونيو 2025، وشملت منشآت نووية، ومصانع صواريخ باليستية، وقادة عسكريين، وعلماء نوويين. هذه العمليات العسكرية الواسعة النطاق أحدثت تحولاً جذرياً في موازين القوى الإقليمية، وكشفت عن هشاشة الردع الإيراني بشكل لم يسبق له مثيل.
ما يثير الانتباه في هذا السياق هو الموقف الخليجي المتوازن، حيث وقفت دول مجلس التعاون الخليجي بإيجابية مع إيران، ورفضت الحرب عليها بشكل قاطع. هذا الموقف يعكس نضجاً استراتيجياً في النهج الخليجي، الذي لا يسعى إلى إضعاف إيران أو انهيارها، بل إلى تعديل سلوكها الإقليمي بما يضمن الاستقرار والأمن في المنطقة.
من جهة أخرى، كشفت هذه التطورات عن تحول جوهري في المقاربة الخليجية تجاه إيران، حيث سعت دول الخليج العربي خلال السنوات الماضية إلى التقارب مع إيران، حتى تخفف وطأة التهديد الذي تُشكله شبكة ميليشياتها بالوكالة. هذا التوجه يشير إلى أن دول الخليج تدرك أن المواجهة المباشرة مع إيران لن تحل المشكلات الجذرية، بل قد تفاقمها وتؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار.

 

النظام الايراني بين الانكشاف والإنكار
لا يمكن فهم موقف إيران من أي تفاهم محتمل دون إدراك طبيعة اللحظة الحرجة التي تمر بها الدولة الإيرانية. يواجه النظام الإيراني تحديات وجودية غير مسبوقة منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979، تتمثل في عدة مستويات متداخلة:
على المستوى الأمني والعسكري، كشفت الضربات الإسرائيلية الأخيرة عن عمق الاختراقات في المنظومة الاستخباراتية والأمنية الإيرانية. هذه الضربات لم تقتصر على استهداف المنشآت النووية والصاروخية فحسب، بل طالت شخصيات رئيسية في الحرس الثوري والجيش والمخابرات، ما كشف عن هشاشة أمنية تمس قلب النظام. عجز إيران عن الرد المكافئ أو الفاعل أثار تساؤلات جدية حول قدرتها على الحفاظ على هيبة الردع التي اعتمدت عليها لعقود.
على المستوى الاقتصادي، تعيش إيران حالة انكماش شديد نتيجة العقوبات المتواصلة والمتصاعدة، مع تضخم داخلي متسارع يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي. هذا الوضع الاقتصادي المتردي يحد من قدرة النظام على تمويل شبكة وكلائه الإقليميين، بالكفاءة نفسها التي اعتاد عليها في السابق.
على المستوى الداخلي، يشهد النظام احتقاناً متصاعداً يعكسه حجم الاحتجاجات الشعبية واتساع الهوة بين النظام والمجتمع، خصوصاً في المدن الكبرى والأقليات المهمشة. هذا التململ الشعبي يزيد من الضغط على النظام، ويحد من مرونته في التعامل مع التحديات الخارجية.
رغم هذه التحديات المتراكمة، لم تُظهر طهران حتى الآن استعداداً جذرياً لمراجعة سياساتها الخارجية، بل تميل إلى الحفاظ على أدوات الضغط والنفوذ الإقليمي – وفي مقدمتها دعم الحوثيين – باعتبارها أوراق تفاوض استراتيجية أكثر منها التزامات أيديولوجية. هذا النهج يعكس رؤية النظام الإيراني للصراع الإقليمي كلعبة محصلتها صفر، حيث أن أي تنازل يُفسر أنه نتيجة ضعف، قد يؤدي إلى انهيار منظومة النفوذ بأكملها.

 

المقاربة الخليجية: التهدئة بشروط واضحة
في المقابل، تبدو المقاربة الخليجية اليوم أكثر اتزاناً ونضجاً من مراحل سابقة، وتعكس فهماً عميقاً لطبيعة التحديات الإقليمية ومتطلبات الاستقرار طويل المدى، فالمحور الخليجي، بقيادة السعودية والإمارات، لا يسعى إلى إسقاط النظام الإيراني أو مواجهته عسكرياً، بل يركّز على ضبط النفوذ الإيراني، وتحويل سلوك طهران من المواجهة إلى التعايش المشروط.
هذا التوجه الخليجي يقوم على فهم استراتيجي مفاده أن انهيار إيران أو دخولها في حالة فوضى قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على الأمن الإقليمي، من خلال انتشار السلاح وتدفق اللاجئين وتفكك الدولة إلى كيانات طائفية وعرقية متصارعة. لذلك، تفضل دول الخليج التعامل مع إيران قوية ومستقرة، ولكن غير عدائية، على التعامل مع إيران منهارة ومصدر فوضى إقليمية.
في هذا السياق، يمكن تلخيص المطالب الخليجية الأساسية من إيران في أربعة مسارات واضحة ومحددة:
أولاً، وقف البرنامج النووي ذي الطابع العسكري، عبر مسار تفاوضي يضمن عدم تحول إيران إلى قوة نووية تخلّ بالتوازن الإقليمي. هذا المطلب ليس موجهاً ضد حق إيران في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، بل ضد الأنشطة التي قد تؤدي إلى تطوير أسلحة نووية.
ثانياً، تقديم ضمانات أمنية بشأن تطوير واستخدام الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، التي استُخدمت مراراً لتهديد الأمن الخليجي. هذا المطلب يهدف إلى إيجاد آليات ضبط وتحكم في هذه الأسلحة، تمنع استخدامها لتهديد دول الجوار.
ثالثاً، الكفّ عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الخليجية، خصوصاً عبر دعم الأقليات الشيعية وتمويل شبكات مرتبطة بطهران داخل بعض المجتمعات الخليجية. هذا المطلب يستهدف وقف الأنشطة التخريبية والتجسسية التي تهدد الأمن الداخلي لدول الخليج.
رابعاً، وقف دعم الحوثيين في اليمن، بوصفه تهديداً مباشراً على الحدود الجنوبية للسعودية وممرات الطاقة، ومصدر فوضى مستمر يُفشل أي تسوية يمنية شاملة. هذا الملف يُعتبر من أهم نقاط الخلاف بين الخليج وإيران، حيث تستمر إيران في دعم الحوثيين مما يحول دون تحقيق رؤية واضحة للسلام والاستقرار في اليمن والمنطقة.
هذه المطالب لا تستهدف تطويق إيران أو إلحاق الضرر بها، بل تفكيك عناصر التهديد الأكثر حدة، بما يسمح بفتح صفحة جديدة تستند إلى المصالح المتبادلة والتعاون البناء، وليس إلى الانتصارات المؤقتة أو فرض النفوذ بالقوة.

 

معضلة النظام الإيراني: بين الحاجة والمقاومة
رغم حالة الإنهاك الواضحة التي تعيشها إيران على مختلف المستويات، لا تزال طهران تُصرّ على الاحتفاظ بما تعتبره مفاتيح التوازن الإقليمي، مدفوعة بثلاثة اعتبارات استراتيجية رئيسية تشكل جوهر فلسفة النظام في التعامل مع المحيط الإقليمي.
الاعتبار الأول يتمثل في أن إيران تعتبر نفوذها في اليمن ولبنان والعراق ركيزة وجودية لبقائها الإقليمي، وليس مجرد أداة للضغط أو المساومة. هذه الرؤية تجعل من الصعب على النظام الإيراني التخلي عن هذه الأدوات دون ضمانات قوية بأن ذلك لن يؤدي إلى تآكل نفوذها الإقليمي بشكل تدريجي.
الاعتبار الثاني يكمن في أن إيران تتعامل مع الخليج بوصفه ساحة تنافس استراتيجي مع الولايات المتحدة، وترى في العلاقة مع السعودية والإمارات جزءاً من توازنها الأوسع مع القوى الغربية، وليست فقط قضية إقليمية.
أما الاعتبار الثالث والأكثر أهمية، فيتعلق بإدراك إيران بأن أي تراجع مفاجئ أو كبير في نفوذها الإقليمي، قد يُفسر من قبل خصومها كعلامة على ضعف النظام، مما قد يشجع على المزيد من الضغوط العسكرية والاقتصادية ضدها. هذا الإدراك يكتسب أهمية خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، والانهيار المستمر للريال الإيراني. 
يشير الواقع الحالي إلى أن إسرائيل برزت كقوة عسكرية إقليمية لا منازع لها، بينما إيران و"محور المقاومة" في حالة فوضى، مما يجعل من الصعب على طهران الحفاظ على استراتيجيتها التقليدية دون تكيف جذري مع المعطيات الجديدة.
في النهاية، تجد إيران نفسها أمام معادلة معقدة: فمن جهة، تحتاج إلى الحفاظ على ما تبقى من نفوذها الإقليمي كضمانة للبقاء، ومن جهة أخرى، عليها أن تتعامل مع واقع أن شبكة "محور المقاومة" التي بُنيت بعناية على مدى نصف قرن تقريباً، قد تضررت بشدة.
هذا التحدي يتطلب من النظام الإيراني إعادة تقييم استراتيجيته الإقليمية، والبحث عن آليات جديدة للتوازن تأخذ في الاعتبار القيود الاقتصادية الداخلية، والتغيرات الجيوسياسية في المنطقة.



 
(١) بعد موقفها من الضربات الإسرائيلية.. الرئيس الإيراني: مستعدون لفتح "صفحة جديدة" مع دول الخليج، cnn ، 30 يونيو / حزيران 2025، https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2025/06/30/iranian-presiden-ready-to-open-a-new-page-with-gcc-states

The stated views express the views of the author and do not necessarily reflect the views of the Center or the work team.

Comments